مقاربة دستورية للتعطيل الرئاسي

 


شبلي ملاّط

بغضّ النظر عن الجدل الرئاسي القائم قد يكون مفيداً العودة الى بعض النصوص الدستورية في تفسير نيِّر وعلمي معالجةً للتعطيل المستشري في الرئاسة. وهذه الدراسة جزء من خواطر رئاسية في ما آلت اليه جمهوريتنا من شذوذ دستوري، ومسؤولية المواطن في القيام بدوره نقاشاً وعملاً لتخطّيها.

هل للمواطن، أو المرشح، أو لحزب أو هيئة في المجتمع المدني، أو كتلة نيابية، أن تختبر القضاء اللبناني، والمجلس الدستوري بالتحديد، في ظل التعطيل الذي أصرّ المجلس الدستوري بدور القضاء في إنهاء مفعوله المدمّر للجمهورية؟

(PDF version)

(1) النصوص الدستورية المانعة للتعطيل

تقضي المادة 49 من الدستور اللبناني بأن ينتخب رئيس الجمهورية "بالإقتراع السري بغالبية الثلثين من مجلس النواب في الدورة الأولى، ويكتفى بالغالبية المطلقة في دورات الإقتراع التي تلي".
أمّا النصاب القانوني لجلسة مجلس النواب، فهو محدّد في المادة 34: "لا يكون اجتماع المجلس قانونياً ما لم تحضره الأكثرية من الأعضاء، وتتخذ القرارات بغالبية الأصوات". النصاب إذاً لاجتماع مجلس النواب نصفُ أعضائه.
في موضوع الرئاسة، لا نصَّ مخالفاً لذلك، بل النصوص الخاصة بالرئاسة في حال فراغ أياً كان ترجِّح أهميَّة الإنتخاب الرئاسي وأولويَّتها على أي شأن آخر، درءاً لتعطيل الجمهورية بحرمانها من "رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن" كما جاء في مطلع الفصل الرابع عن رئيس الجمهورية (م 49 ف1).
ويثبِّت هذه الأولوية لمنع الفراغ الرئاسي فصلٌ خاص هو الباب الثالث من الدستور، تسطّر فيه ثلاث مواد كيفيّة استمرار الهيكل الدستوري المكتمل بالرئاسة. يمكن إدراج هذه التدابير الكفيلة بمنع التعطيل في هذا الباب تحت عناوين ثلاثة: ضرورة التئام المجلس، إلتئامه الفوري لانتخاب الرئيس، وحصرية عمله في هذا الإنتخاب.
يؤكد الدستور ضرورة التئام المجلس لانتخاب الرئيس قبل أي فراغ – أي عموماً قبل نهاية ولاية الرئيس: "قبل موعد انتهاء ولاية رئيس الجمهورية بمدة شهر على الأقل أو شهرين على الأكثر يلتئم المجلس بناء على دعوة من رئيسه لانتخاب الرئيس الجديد وإذا لم يدع المجلس لهذا الغرض فإنه يجتمع حكماً في اليوم العاشر الذي يسبق أجل انتهاء ولاية الرئيس" (مادة 73).
وتؤكد المادة 74 ضرورة إلتئام المجلس"فوراً" لسدّ باب التعطيل الحاصل في حالة فراغ ناتجة عن وفاة الرئيس أو استقالته: "إذا خلت سدّة الرئاسة بسبب وفاة الرئيس أو استقالته أو سبب آخر فلأجل انتخاب الخَلَف يجتمع المجلس فوراً بحكم القانون وإذا اتفق حصول خلاء الرئاسة حال وجود مجلس النواب منحلاً تدعى الهيئات الإنتخابية دون إبطاء ويجتمع المجلس بحكم القانون حال الفراغ من الأعمال الإنتخابية".
أما المادة 75، فهي تحفظ حصرية الإنتخاب في الجلسة بالتركيز على امتناع النواب عن التعرّض لأي موضوع عدا انتخاب الرئيس."إن المجلس الملتئم لانتخاب رئيس الجمهورية يعتبر هيئة انتخابية لا هيئة اشتراعية ويترتب عليه الشروع حالاً في انتخاب رئيس الدولة دون مناقشة أو أي عمل آخر".

(2)  في تفسير الدستور المانع للتعطيل
التفسيرات المعطّلة للمبادىء القانونية كثيرة في تراث الإنسانية، أكانت بتجاهل نص وتقديم الآخر عليه، أو في علوم الناسخ والمنسوخ، أو في تفسير مغاير للمعنى الواضح والفائدة الجلية، وهذا كله يندرج في أدبيات عالميَّة لا تحصى.
ويدخل في التأويل الدستوري عوامل كثيرة، منها العرف وما آل اليه، ومنها تاريخ النص وآراء واضعيه، لكن النفاذ في المعنى الدستوري يرتبط عموماً بالسلطات السياسية التي من واجبها أن تطبقه بداهة. وإذا كان كلّ مواطن في المبدأ يتحرك تحت سقف القانون، فإن المسؤول في السلطة أَوْلى باحترام هذا السقف، وفي قمّته النص الدستوري. جميع المواطنين، كما جميع المسؤولين، مؤتمنون على احترام الدستور بداهةً والإلتزام به عفواً.
ولأن المسؤول يكون عادة عرضة لتجاذب ومصالح سياسية، فالتفسير الدستوري في المطاف الآخير يتمّ بتحكيم القضاء عليه، وهذا ما انتهى اليه لبنان، أسوة بدول كثيرة، بإناطة البتّ في "النزاعات والطعون الناشئة عن الإنتخابات الرئاسية" بالمجلس الدستوري في المادة 19 من الدستور كما تم تعديله عام 1990.
وفي قراره الأخير، أعلن المجلس الدستوري موقفه من التعطيل المستمر للدستور بغياب الرئيس:
في تعطيل المؤسسات الدستورية:
بما ان انتظام أداء المؤسسات الدستورية هو اساس الانتظام العام في الدولة، وبما ان انتظام اداء المؤسسات الدستورية يقتضي قيام كل مؤسسة دستورية، ودون ابطاء، بالمهام المناطة بها، ضمن الصلاحيات المعطاة لها، وفي اطار القواعد والمبادىء التي نص عليها الدستور،
وبما ان الظروف الاستثنائية تقتضي قيام المؤسسات الدستورية بواجبها ومضاعفة نشاطها لمواجهة الظروف الاستثنائية والحفاظ على كيان الدولة ومصالحها العليا،
وبما ان شغور سدة رئاسة الجمهورية واناطة صلاحيات رئيس الجمهورية وكالة بمجلس الوزراء ترك انعكاسات سلبية وبالغة الخطورة على اداء السلطة الاجرائية، وبالتالي على مؤسسات الدولة كافة.

(3) في النظام الدستوري والإختصاص
إذا صحَّ إذاً أن "الفراغ في المؤسسات الدستورية يتعارض والغاية التي وجد من أجلها الدستور، ويهدد النظام بالسقوط ويضع البلاد في المجهول" وأنّ "الشغور في مؤسسة من المؤسسات الدستورية، وبخاصة رئاسة الجمهورية، يؤدي الى خلل في انتظام المؤسسات الدستورية جميعها، وبالتالي الى خلل في الانتظام العام"، هل يحق للمجلس الدستوري أن يصحح الوضع المستشري فراغاً في الرئاسة إذا تأخرت السلطات الأخرى عن ذلك، ولا سيّما في التفسير المغلوط لنصاب معطّل للعملية الإنتخابية بسماحه لأقلية نيابية من منع الإنتخاب الرئاسي"فوراً".
عندي أن الوعي الدستوري في بلادنا تقدَّم بشكل ملحوظ لدى اللبنانيين، وأن اللجوء الى الدستور في قمة الهرم القانونية قد زاد في حديث المواطن السليم كما في اللوائح القانونية المعروضة على القضاء بهيئاته المختلفة. بل إنّ تقدُّمَ هذا الوعي تلقّفه القضاء مراراً، لا سيما قضاء مجلس الشورى، في ظاهرة صحيّة ترفع حق المواطن الدستوري الى المستوى المطلوب في الهرمية القانونية، أي في المدار القضائي الذي يعطيه مداه التطبيقي الطبيعي في الحياة اليومية.
هذا يعني أننا بحاجة الى دراية القضاء لمصلحة المواطن في استمرار المرافق العامة – أكان في إزالة النفايات من الطرق أو في استحداث الرئيس المنتخب-، إلا أنّ المواطن ممنوع من التظلّم أمام المجلس الدستوري في موضوع مخالفة القانون للدستور، وهذا نقصٌ مبين أشرت اليه منذ أكثر من عشرين عاماً ("المجلس الدستوري اللبناني: من أجل دراسة نقدية مقارنةً"، "الحياة"، 12 آب 1993).
لكنّ السؤال يختلف في إختصاص المجلس الدستوري في موضوع "النزاعات الناشئة عن الإنتخابات الرئاسية"، - والنزاعات تختلف عن الطعون- وقد أناطها الدستور في المادة 19 بالمجلس الدستوري تحديداً، ولم يعد يتطرق اليها أي قانون أو ترتيب لاحق في مجالٍ أظهرته الممارسة السياسية موطئاً في غاية الحساسية بالنسبة لأمن الحياة الدستورية واستمراريتها.
وهنا السؤال الملحّ عن إمكانية تفعيله من قبل المواطن الحريص على رئيس للجمهورية وهو رمز للوطن، لا تكتمل المؤسسات من دونه. فهل للمواطن أن يتطلع الى المجلس الدستوري في الموضوع الرئاسي لأن حقّه باستمرارية المرفق العام الممثّل بالرئاسة قد تمّ تعطيلُه؟
في ضوء النتائج الثلاث التي تنتهي اليها هذه الدراسة، أولها النصوص التي تسدُّ ذريعة الفراغ بضرورة إلتئام المجلس فوراً والمضي بالإنتخاب بغالبية لا تعطّله، وثانيها قرار المجلس الدستوري بدوره المحوري في إزالة التعطيل الرئاسي، والثالث في مصلحة المواطنين في اكتمال الهيكل الدستوري في رئيس هو رمز الوطن – لا بأس من اختبار حقّ كتلة نيابية أو هيئة من المجتمع المدني، أو مرشح رئاسي، بل اختبار حقّ المواطن الأعزل المتضرر من الفراغ المستشري، في التظلّم الى المجلس لإنهاء ضَيْم التعطيل وضرره على اكتمال الجمهورية.

محام وباحث في القانون

 

 

Region: 
Issue: 
Year: