On the occasion of a civil occasion, Kamal Joumblatt prize for 'civil state', dawla madaniya, to Gregoire Haddad

كمال جنبلاط يكرّم غريغوار حدّاد

شبلي ملاّط

النهار، 22 آذار 2016

(PDF version)

في جيلٍ عرف الحرب الأهلية وهول أحداثها يتألق عددٌ مختار¶ من اللبنانيين في ملتقى الذاكرة الجماعيّة، فتعتزّ بهم ملاذاً من اليأس والخجل الملازمَين لسؤالها عما اعترى المجتمع من جنون التعادي والتفاني.

السؤال في الذاكرة الجماعية لا يتوقّف طبعاً عند حروب لبنان الطويلة، حروب الآخرين في لبنان، وحروب لبنان على أرض الآخرين – هذا الشواذ الإضافي الذي نراه اليوم ممتداً الى قلب الجنون العاصف بسوريا. السؤال عما يعتري المجتمع من جنون في حقبات خاصة من تاريخه طرحه علينا أبو الطيب المتنبي في لغته الشعرية المتفوّقة منذ أكثر من ألف عام.
ومراد النفوس أصغر من
أن نتعادى فيها وأن نتفانى
في معرض قصيدة مطلعها اختصار التاريخ الإنساني:
كلّما أنبت الزمان قناةً
ركّب المرء في القناة سنانا
فسموّ مُراد النفوس عن التعادي والتفاني لا يتوقف في الأيام المظلمة. في الظلمة دائماً نقاطُ نورٍ نتبصّرها لشديد تألّقها، بَلْ تزيد تألقاً كلّما اشتدت الظلمات حوْلَنا اسودادا.
هذا النور في الديجور تمثله في ذاكرتنا قلَّةٌ من الأشخاص الذين تسنّى لبعضنا حظّ مرافقتهم، أو حتى مُجَرّد التعرّف عليهم، ليطبعوا ذاكرتنا بتألقهم في رسالة رافضة للحرب وناقضة للعنف، رسالة هي مراد النفوس المترفّعة عن مواكبة واقع لا يمكن القبول به. مَثَلُ ومثال هذه النفوس الطاهرة في ديجور حروبنا الطويلة كمال جنبلاط وغريغوار حدّاد، تتعلق بهما ذاكرتنا لدفع الحرج من حلول الفاجعة على مجتمعنا، والتغلّب على اليأس الذي لا يَفْهم كيف كان ممكناً لزماننا أن يرضى بتركيب المرء السنان على كلّ قناة أنبَتَها.
وإذا كان حَدْسنا يدلُّ قلبنا على كمال جنبلاط وغيرغوار حداد متألِّقَين بنورهما في الظلام، فلا بُدَّ من تساؤل أكثر عمقاً من الحدس لفهم هذا التلاقي بشخصيتين ترتاح اليهما نَفْسُنا ملاذاً لها من الحرج واليأس. وبعض الجواب على السؤال الصعب يأتي في تلاقي السّير الجامعة، ومنها عرضيّ جغرافي كنشأة غريغوار حدّاد في ضيعتنا العزيزة سوق الغرب وجوارها للشوف وعاليه، حيث كان العطاء الإجتماعي لهما مميَّزاً، ومنها ما كان ضرورياً لمـّا تتلاقى عليه الأرواح النبيلة لأنها تؤمن به في عقلها، وليس فقط في حدسها، فتسعى جاهدة الى تطبيقه في الواقع المعيش، وتطويره نشاطاً اجتماعياً ملموساً وفعّالاً.
والتلاقي بين كمال جنبلاط وغريغوار حدّاد متعدد ومتواتر وعميق، وقد سمعنا بعض فصوله المميّزة ممّن عرفهما عن كثب، صديقاً وجاراً ورفيقاً على درب الإصلاح، وفي مقدّمهم حبيبنا الفاضل، وهو من وتيرتهما ومدرستهما السامية، الأستاذ عباس خلف الذي تعتز رابطة أصدقاء كمال جنبلاط بإشرافه عليها.
ولئن انتقلنا من الحدس الى العقل، فعندي أننا أيضاً محظوظون بتراث عطاء يلتقيان فيه بكتابات ومعالجات عملية لخوض الإصلاح على أرض الواقع، أختار من بحرها الواسع نزراً يسيراً من معطاء فكرهما وسيرتهما.
الموضوع الأول محورية روح الإنسان مرتكزاً للمجتمع. و"فيما يتعدى الحرف"، يكتب كمال جنبلاط في فصل عنوانه «روحية العالم الجديد»: إن الغاية الوحيدة لكل عمل ومؤسسة بشريين هي تفتّح كامل ومتناسق لمقدور الفرد (وإنني أفضل: لمقدور الإنسان فينا). وإن المجتمع في كلّ مؤسساته – ومنها السياسية – ليس في ذاته غاية بل وسيلة الى بناء الإنسان. فالدولة تقدّس أو تلعن، تخصّب مؤسساتها أو تعقّم، بقدر ما تخدم أو لا تخدم هذا الإنسان. (ص. 91)
ويكرّر، تعليقاً على تفضيله كلمة إنسان على كلمة فرد، «وقد آثرت إبدال كلمة الفرد بالإنسان تعمداً، لأن الفرد ليس له قيمة بحدّ ذاته ولا كيان إلا بالنسبة للإنسان.» (ص. 92)
أما غريغوار حداد، فعنده أنه: لا نفع للإنسان إن ربح العالم، هذا العالم الزمني، وخسر نفسه، خسر ذاته الروحية والملكوت الروحي. بل في ذلك الخسارة الكبرى، ولكن لا يجوز للإنسان أن يخسر العالم، أن يحتقره، أن يخسر واحداً من أبناء هذا العالم، ليربح نفسه. أو أن يربح نفسه بدون أن يأبه للعالم. إذ أنه مُرسَلٌ الى هذا العالم لربحه، لخلاصه. (مجلة آفاق، 24: 1991، ص. 20)
ولأن الإنسان هو المبتدأ المشترك لجنبلاط وحدّاد، فهما مشتركان أيضاً في تفعيله في الإندفاع الإجتماعي، وسيرتهما في تطبيق هذا العمل في حياة الناس عن طريق المبادرات الحيّة المستمرّة، والمتطلبة الجهد اليومي تنظيماً وأداءً، ولو بقي غريغوار حدّاد المطران بعيداً فيها عن السياسة، فيما خاض كمال جنبلاط السياسي معركته في الشأن التشريعي والتنفيذي– أي الحكومي - نصرةً للفقير والمهمَّش.
هذا المشترك الإجتماعي التقى فيه الرجلان كلٌّ بما فرضته بيئته ونشأته عليه، أحدهما رجل دين امتعض منه من اعتبروه مُخلّاً بالواقع المترهل الظالم، والثاني سليل عائلة سياسية كبيرة امتعض وَسطه من مكارم أخلاقه وعطفه على الفلاح والفقير بممتلكاته.
أمّا الملتقى الثالث، فهو مناسبة جائزة، الدولة المدنية ، وهي مفهوم اشتركا في الإيمان به وبناء المجتمع المرادف له – وقد أسّس غريغوار حداد تيار المجتمع المدني نموذجاً للدولة المدنية واستباقاً لها.
أودّ أن أسطّر هذا المفهوم المركّب– الدولة زائدة المدنية - انطلاقاً من اهتمام الرجلين به والمطوّلات العلمية التي ترافقهما منذ أن أدخل سيّد الفلاسفة هيغل مفهوم المجتمع المدني في مقابل الدولة في منظومته الكبيرة. يطول الحديث طبعاً، ويتشعّب، إنما ما يشدني الى التركيز عليه مستفهماً هو ما تجلى في ثوراتنا العربية القريبة من نقل مفهوم «المدني» من المجتمع الى الدولة. فالمجتمع المدني تحصيل حاصل منذ هيغل كمفهوم من الحقيقة الماثلة أمامنا: هناك مجتمع مدني يمثل حاجات الناس وتنظيم حياتهم لسدّها وإنشاء الجمعيات والأحزاب لتقديمها (هيغل، في فلسفة القانون، 1821).
المجتمع المدني في هذه النظرة الفلسفية الشاملة إذاً حقيقة ملموسة في مقابل الدولة، كما أن الدولة حقيقة لا تكتمل إلا في مرآة المجتمع المدني المستقلّ عنها. هذه الثنائية أتقن التعبير الواضح عنها أعظم مفكر اشتراكي في نهاية القرن العشرين، الكاتب الفرنسي روبير فوسار الذي غادرنا العام المنصرم، وقد ثبّت حقيقتها الثنائية عبر العصور والحضارات: الدولة والمجتمع المدني مركّب ثنائي متكامل متداخل في التنظيم السياسي للمجتمع منذ بداية التاريخ البشري.
لماذا هذا التركيز إذاً على ما بات مفهوماً في طول العالم وعرضه؟ التركيز اليوم لأننا فوجئنا في أوائل عام 2011، في ثورة عربية عارمة أحببناها لطابعها السلّمي اللاعنفي، والصبوة الى اللاعنف مشتركة عند جنبلاط وحداد، جائزاً ومُجازاً، وفوجئنا أيضاً ببروز مصطلح جديدٍ على العالم، اشترك فيه الملايين من الناس مطالبين بـ"الدولة المدنية". لاحِظوا التوصيف المرتبط بالدولة، وليس بالمجتمع. أراد الناس الثائرون أن تتحول الدولة مما هي، فاسدةً وعاطلةً وقاسيةً وقاسرةً، الى دولة مدنية.
تفاجئنا "الدولة المدنية"مصطلحاً جديداً أفرزته ثورةٌ عارمة، فتفرض علينا أن نصغي الى شعبنا مجدداً والتأمل في مطلبه الثوري هذا. فما معنى أنّ الشعب يريد دولة مدنية؟
طبعاً تتعدد الإجابات، ونحن في أولها، ومنها بداهة في دول الإستبداد، طلبُ الناس أن تكون دولتهم مدنية مقابل الدولة الدينية، وأن تكون دولتهم مدنية مقابل الدولة العسكرية. الدولة المدنية في مصر، والثورة المصرية لا تزال لولب مفترق عام 2011، الثورة المصرية تصدّت لدولة يتحكم بمصيرها الجيش، لذا أراد الثوار إعادتها الى المدنيين، كما أنها تصدّت، وهذا مهم جداً لقراءة صحيحة لما شدَّنا جميعاً في بدايات الثورة، أرادها الناس دولة مدنية مقابل الدولة الدينية، أكانت دولة رجال الدين كما تأصلت في إيران، أو الدولة الدينية كما كانت مهدّدة المصير من دون رجال الدين كما في تونس أو في مصر من قبل الجماعات الدينية من الإخوان المسلمين وحتى الأوساط الأكثر تطرفاً فيها.
الدولة المدنية إذاً في مقابل الدولة المحكومة دينياً، والدولة المدنية إذاً في مقابل الدولة الأمنية.
تطور لافت في الفلسفة السياسية هذا الإنتقال من المجتمع المدني الى الدولة المدنية، معناها في ما خرج الناس مطالبين به من المحيط الى الخليج، بما فيه الخليج الفارسي، أن تقوم الدولة على المدنيين وليس على رجال الأمن، وعلى المدنيين وليس على رجال الدين.
هذا حديث يحتاج الى مطوّلات، مناسبٌ التوقف فيه هنا ختاماً لما قدمه كلّ من كمال جنبلاط وغريغوار حداد من مصطلحٍ مستقبلي نعيشه في مراد نفوسنا بعد خمسين عاماً من إدخالهما المصطلح على قاموسنا، عندما كنّا لا نزال جميعنا نتخبط في ضياع أهميته علينا. بعد محورية الإنسان وأهمية تجلّيه إجتماعياً في المجتمع المدني، الدولة المدنية هي المشترك الثالث، وكأن فيه شيئاً من النبوّة، بين كمال جنبلاط وغريغوار حدّاد.

 

محامٍ دولي وبروفسور في القانون

لمناسبة تقديم جائزة كمال جنبلاط في بناء الدولة المدنية الى غريغوار حدّاد، بيروت، جامعة هايكازيان، 15 آذار 2016

 

Year: